إطلاق تجريبي
98
منذ سنة
يعتبر الإمام الطبري من أبرز المفسرين والمؤرخين في التاريخ الإسلامي، حيث اشتهر بكتابيه “تفسير الطبري”، و”تاريخ الطبري”، وهو عالم جمع بين علوم التفسير والفقه والتأريخ وعرف بميله لعدم التقليد، حيث استطاع أن يوظف جملة من علومه في الفقه واللغة والدين والعقائد، في أن يخرج بتفسيره الذي صار مرجعا إلى اليوم.
كان الإمام الطبري أكثر علماء عصره همة في طلب العلم وتحصيله وزهدا في الدنيا، وفي تأليف أمهات الكتب، ومن كبار مؤرخي الأمة الإسلامية ورائد مدرسة التفسير، فمن أبرز المفسرين والمؤرخين المسلمين.
ولد في مدينة “آمل” بطبرستان (جنوب بحر قزوين) ونشأ بها في كنف والده الذي اهتم به منذ الصغر، حيث رأى فيه ذكاء ونبوغا وحباً للعلم. وبهذا استطاع أن يحفظ القرآن في السابعة من عمره، وتوجه بعدها إلى مدارس العلماء والفقهاء ليأخذ منهم، وقد خصص له والده المال الكافي ليكمل تعليمه بأفضل وجه. وقد انعكست معارف الطبري وقدرته على الحفظ وموهبته في مؤلفاته.
هو محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري رحمه الله تعالى، يُكنى بـأبي جعفر، وعُرف بذلك، واتفق المؤرخون على أنه لم يكن له ولد يسمى بـجعفر، بل إنه لم يتزوج أصلا، ولكنه تكنَّى التزامًا بآداب الشرع الحنيف، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُطلِق الكُنَى على أصحابه.
وُلِد سنة 224هـ/ 839م، وكانت ولادته بـ”آمُل” عاصمة إقليم طبرستان. ونشأ في هذه المدينة، وتربى في أحضان والده الذي غمره برعايته، وتفرس فيه النباهة والذكاء والرغبة في العلم فتولى العناية به ووجَّهه منذ الطفولة إلى حفظ القرآن الكريم، كما هي عادة المسلمين في مناهج التربية الإسلامية.
ويقال أن والده رأى رؤيا تفاءل بها خيرا عند تأويلها. فقد رأى أبوه رؤيا في منامه أن ابنه واقف بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه مخلاة مملوءة بالأحجار، وهو يرمي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقصَّ الأب على مُعَبِّرٍ رؤياه فقال له: “إن ابنك إن كبر نصح في دينه، وذبَّ عن شريعة ربه.
ويظهر أن الوالد أخبر ولده بهذه الرؤيا وقصها عليه عدة مرات؛ فكانت حافزًا له على طلب العلم والجد والاجتهاد فيه والاستزادة من معينه، والانكباب على تحصيله ثم العمل به، والتأليف فيه، ليدافع عن الحق والدين.
وظهرت على الطبري في طفولته سمات النبوغ الفكري، وبدت عليه مخايل التفتح الحاد والذكاء الخارق والعقل المتقد، والملكات الممتازة، وأدرك والده ذلك فعمل على تنميتها وحرص على الإفادة والاستفادة منها، فوجَّهه إلى العلماء ومعاهد الدراسة، وساعده على استغلال كل هذه الطاقات دون أن يشغله بشيء من شئون الحياة ومطالبها، وخصص له المال للإنفاق على العلم والتعلم، وسرعان ما حقق الطبري أحلام والده، وزاد له في آماله وطموحه.
وقد حرص والده على إعانته على طلب العلم منذ صباه، ودفعه إلى تحصيله، فما كاد الصبي الصغير يبلغ السن التي تؤهله للتعليم، حتى قدمه والده إلى علماء آمل، وشاهدته دروب المدينة ذاهبًا آيبًا يتأبط دواته وقرطاسه. وسرعان ما تفتح عقله، وبدت عليه مخايل النبوغ والاجتهاد، حتى قال عن نفسه: “حفظت القرآن ولي سبع سنين، وصليت بالناس وأنا ابن ثماني سنين، وكتبت الحديث وأنا في التاسعة”.
بدأ الإمام الطبري طريقه بحفظ القرآن وتعلم القراءات، على يد علماء بلدته، ولما ترعرع رحل في سنة 240 هـ، طلباً للمزيد من العلم، ودخل البصرة فجلس بين يدي علمائها، وأخذ عن شيوخها كمحمد بن بشار المعروف ببندار، ومحمد بن الأعلى الصنعاني، ثم رحل إلى الشام، وقرأ القرآن ببيروت على العباس بن الوليد، وارتحل منها إلى المدينة المنورة وسمع من مشايخها، ثم سافر إلى مصر سنة 253 هـ، وأخذ عن محمد بن إسحاق بن خزيمة، وتلقى عن يونس بن عبد الأعلى، والربيع بن سليمان صاحب الشافعي، وغيرهم.
ورحل إلى الري وخراسان وطاف بالبلاد وجد في الأخذ عن علمائها وكبار الفقهاء، حتى تضلع في العلم وصار من أفراد الدهر علما وذكاء وتصنيفا، واستقر في أواخر أمره ببغداد، وانقطع للدرس والتأليف وقد شغله كل ذلك عن أن يتزوج أو أن ينشغل بمطالب الحياة، فعاش عزبا – رحمه الله – يقول الطبري عن نفسه: “ما حللت سراويلي على حرام ولا حلال قط”.
تمتع الإمام الطبري رحمه الله تعالى بمواهب فطرية متميزة، جبله الله الكريم عليها، وتفضل عليه بها، كما حفلت حياته بمجموعة من الصفات الحميدة، والأخلاق الفاضلة، والسيرة المشرفة، ومن هذه الصفات:
من أشهر شيوخ الطبري: محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وأحمد بن منيع البغوي، ومحمد بن حميد الرازي، وأبو همام الوليد بن شجاع، وأبو كريب محمد بن العلاء، ويعقوب بن إبراهيم الدورقي، وأبو سعيد الأشج، وعمرو بن علي، ومحمد بن بشار، ومحمد بن المثنى، وخلق كثير نحوهم من أهل العراق والشام ومصر.
ومن أشهر تلامذته: أحمد بن كامل القاضي، ومحمد بن عبد الله الشافعي، ومخلد بن جعفر، وأحمد بن عبد الله بن الحسين الجُبْني الكبائي، وأحمد بن موسى بن العباس التميمي، وعبد الله بن أحمد الفرغاني، وعبد الواحد بن عمر بن محمد أبو طاهر البغدادي البزاز، ومحمد بن أحمد بن عمر أبو بكر الضرير الرملي، ومحمد بن محمد بن فيروز، وخلق كثير غيرهم.
ترك لنا الطبري ثروة علمية تدل على غزارة علمه، وسعة ثقافته، ودقته في اختيار العلوم الشرعية والأحكام المتعلقة بها، وكان له قلم سيَّال، ونَفَس طويل، وصبر في البحث والدرس، فكان يعتكف على التصنيف، وكتابة الموسوعات العلمية في صنوف العلوم، مع ما منَّ الله عليه من ذكاء خارق، وعقل راجح متفتح، وجَلَد على تحمل المشاق، ومن هذه المؤلفات:
لخص الأستاذ محمد محمود الحلبي منهجَ الطبري باختصار فقال: “وهو تفسير ذو منهج خاص، يذكر الآية أو الآيات من القرآن، ثم يعقبها بذكر أشهر الأقوال التي أُثرت عن الصحابة والتابعين من سلف الأمة في تفسيرها، ثم يورد بعد ذلك روايات أخرى متفاوتة الدرجة في الثقة والقوة في الآية كلها أو في بعض أجزائها بناءً على خلافٍ في القراءة أو اختلاف في التأويل، ثم يعقِّب على كل ذلك بالترجيح بين الروايات واختيار أولاها بالتقدمة، وأحقها بالإيثار، ثم ينتقل إلى آية أخرى فينهج نفس النهج: عارضًا ثم ناقدًا ثم مرجِّحًا”.
“وهو إذ ينقد أو يرجِّح يردُّ النقد أو الترجيح إلى مقاييس تاريخية من حال رجال السند في القوة والضعف، أو إلى مقاييس علمية وفنية: من الاحتكام إلى اللغة التي نزل بها الكتاب، نصوصها وأقوال شعرائها، ومن نقد القراءة وتوثيقها أو تضعيفها، ومن رجوع إلى ما تقرر بين العلماء من أصول العقائد، أو أصول الأحكام أو غيرهما من ضروب المعارف التي أحاط بها ابن جرير، وجمع فيها مادة لم تجتمع لكثير من غيره من كبار علماء عصره”.
تفسير الطبري
في كتابه تفسير الطبري، هو صاحب جهد غير مسبوق، حيث يعد أول من نظم مختلف مراحل التفسير في ضوء ما توفر له من مادة تفسيرية غزيرة في عصره، وقد أسس بهذا لمنهج سار عليه من بعده.
ويجمع تفسيره بين المعنى والتأويل واللغة وأشهر الأقوال حول مدلول الآيات والإعراب، بحيث أنه مزيج بين التأريخ والنقل والاقتباس واللغة والأسانيد والترجيح، لكنه يكشف عن موهبة نادرة وصبر كبير على هذا العمل الذي استغرق منذ سنوات كثيرة يقال إنها وصلت أربعين سنة.
وقد أوضح الطبري أن مقصوده من تفسير القرآن الكريم هو تبيين الوجوه المحتملة للآيات، واستقصاء هذه الوجوه فقال: “إذ كان الذي قصدنا له في كتابنا هذا البيان عن وجوه تأويل آي القرآن دون وجوه قراءتها”.
تاريخ الطبري
استطاع الإمام الطبري أن يوظف جملة من علومه في الفقه واللغة والدين والعقائد، في أن يخرج بتفسيره الذي صار مرجعاً إلى اليوم، كذلك تأليفا لكتابه تاريخ الطبري.
ويعتبر تاريخ الأمم والملوك أو “تاريخ الرسل والملوك” المعروف بـ “تاريخ الطبري”، من الكتب المرجعية في مجاله، وسابق في فكرته، ويؤرخ للعالم من بدء الخلق إلى نهاية سنة 302 هجرية، من قصة آدم إلى الزمن الذي عاصره الطبري.
ويقوم الكتاب على طريق الأخبار بالتسلسل وذكر الأسانيد، وطبع الكتاب مرات عديدة واهتم به المستشرقون كثيراً لتفرد موضوعه وسابقيته.
قال عنه ابن كثير: “كان أحد أئمة الإسلام علمًا وعملاً بكتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم”. وقال الإمام الذهبي: “الإمام الجليل، المفسر أبو جعفر، صاحب التصانيف الباهرة… من كبار أئمة الإسلام المعتمدين”. وقال عنه الذهبي أيضًا: “كان ثقة حافظًا صادقًا، رأسًا في التفسير، إمامًا في الفقه والإجماع والاختلاف، عَلاَّمةً في التاريخ وأيام الناس، عارفًا بالقراءات واللغة، وغير ذلك”.
وقال عنه ياقوت الحموي: “أبو جعفر الطبري المحدِّث، الفقيه، المقرئ، المؤرِّخ، المعروف، المشهور”. وقال الخطيب البغدادي: “كان أحد أئمة العلماء، يُحكم بقوله، ويُرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظًا لكتاب الله، عارفًا بالقراءات كلها، بصيرًا بالمعاني، فقيهًا في أحكام القرآن، عالمًا بالسنن وطرقها: صحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفًا بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم…، عارفًا بأيام الناس وأخبارهم”.
وقال القفطي: “العالم الكامل، الفقيه، المقرئ، النحوي، اللغوي، الحافظ، الإخباري، جامع العلوم، لم يُرَ في فنونه مثله، وصنف التصانيف الكبار”. وقال عنه محمد بن إسحاق بن خزيمة: “ما أعلم على الأرض أعلم من محمد بن جرير”.
وقال عنه ابن تغري بردي: “وهو أحد أئمة العلم، يُحكم بقوله، ويُرجع إلى رأيه، وكان متفننًا في علوم كثيرة، وكان واحد عصره”.
كما ان للعلماء آراء في مؤلفاته، فقد احتل “تفسير الطبري” سويداء القلب عند العلماء على مر العصور في القديم والحديث، وحظي بالرعاية والعناية، وأثنى عليه الأئمة والعلماء والمؤرخون والمفسرون، وسطروا الجمل المذهبة حوله، وعلقوا عليه أوسمة الفخار.
قال عنه الإمام النووي: “لم يصنف أحد مثله. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “وتفسير محمد بن جرير الطبري هو من أجلِّ التفاسير وأعظمها قدرًا…”. وقال أيضًا: “وأما التفاسير التي في أيدي الناس فأصحها تفسير محمد بن جرير الطبري، فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة، وليس فيه بدعة، ولا ينقل عن المتهمين كمقاتل بن بكير والكلبي”. وقال مؤرِّخ الإسلام الذهبي: “وله كتاب التفسير، لم يصنف أحد مثله”.
وقال عنه القفطي: “وصنف التصانيف الكبار، منها تفسير القرآن الذي لم يُرَ أكبر منه، ولا أكثر فوائد”. وقال السيوطي في الإتقان: “وكتابه أجلُّ التفاسير وأعظمها… فإنه يتعرض لتوجيه الأقوال وترجيح بعضها على بعض، والإعراب والاستنباط، فهو يفوقها بذلك”. وقال الشيخ محمد الفاضل بن عاشور: “فكان جديرًا بالتفسير حين تناوله الطبري بتلك المشاركة الواسعة، وذلك التفنُّن العجيب أن يبلغ به أوجه، وأن يستقر على الصورة الكاملة التي تجلت فيها منهجيته، وبرزت بها خصائصه مسيطرة على كل ما ظهر من بعده من تآليف لا تحصى في التفسير”. وقال أبو حامد الإسفراييني الفقيه: “لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصِّل تفسير ابن جرير، لم يكن كثيرًا”.
قام الإمام الطبري بتأليف كتاب ضخم في اختلاف العلماء، ولم يذكر فيه الإمام أحمد بن حنبل على أساس أنه من كبار المحدثين، فظن الحنابلة أن الطبري قد تعمد ذلك للتقليل من شأن فقه الحنابلة، وثارت ثائرتهم عليه وشوشوا عليه في مجالسه، ونفروا الطلبة منه، وأقاموه بالقوة من حلقة الدرس، ومنعوه من الجلوس للتدريس، وحاربوه ومنعوه من الخروج من بيته ورموه بالحجارة.
ولما نقل الإمام الطبري دروسه إلى بيته، حاصروا بيته ومنعوا طلاب العلم من الدخول عليه، وظل حبيساً في بيته يعاني الاضطهاد الشديد، وكان قد جاوز الخامسة والثمانين وأنهكته السنون، حتى توفي رحمه الله، وبلغت المحنة أوجها ووصل التعصب والغلو إلى ذروته، عندما ظل الحنابلة على حصارهم لبيت الطبري حتى بعد أن بلغهم خبر وفاته، مما دفع أصحاب الطبري لأن يدفنوه في صحن داره برحبة يعقوب ببغداد.
وهكذا دفع التعصب المذهبي المقيت خصومه لأن يشيعوا عنه الأكاذيب والأباطيل ويلحقوا به صنوف الأذى والاضطهاد الشديد حتى مات محاصرا مظلوما مضطهدا من الجهلة والمتعصبين.
عاش الإمام الطبري راهبا في محراب العلم والعمل حتى جاءته الوفاة ولا رادَّ لأمر الله. قال الخطيب: “واجتمع عليه (حال الجنازة) من لا يحصيهم عددًا إلا الله، وصُلِّي على قبره عدة شهور ليلاً ونهارًا، ورثاه خلق كثير من أهل الدين والأدب”. وكان ذلك في يوم 26 من شهر شوال سنة 310هـ/ 923م على الأرجح، في عصر الخليفة العباسي المقتدر بالله، ودُفِن في داره الكائنة برحبة يعقوب ببغداد.
وقد قضى الإمام الطبري آخر أيامه في بيته حيث عاش في محراب العلم إلى أن لقي ربه، عن عمر يناهز الـ 85 سنة، وقد مات ولا زال في شعر رأسه ولحيته سواد كثير برواية ابن كثير، ودفن في داره ببغداد، وكانت جنازته حدثاً.
المصدر: شبكة الألوكة
Powered by Froala Editor
Powered by Froala Editor
Powered by Froala Editor