إطلاق تجريبي
لا توجد كتب صوتية الان
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه يتحدث عن بحث الإنسان الأزلي في مسائل الماورائيات بشكل عام، وعن مبدء الخلق بشكل خاص، وهذا البحث الفضولي له ما يسوّغه بلاشك، فالإنسان دون أن يعلم أجوبة هذه الأسئلة يبقى في عماية وتيه لا حدود لها.
ولولا حاجة العبد إلى هذه المعرفة ما أنزل الله كتبه ولا أرسل رسله، حتى لا يبقى الإنسان في حال الضلالة والتيه التي سمّاها القرآن (سُدى)، ﴿أيحسَبُ الإِنْسانُ أن يُتركَ سُدَى﴾[القيامة: ].
والله سبحانه من رحمته بعباده بين لهم من المعرفة كل ما تحقق فيها شرطان، الأوّل منهما: حاجة العبد إلى معرفته، والآخر منهما: دخول هذه المعرفة في نطاق القدرة العقلية للبشر.
فكل ما اختل فيه أحد الشرطين أو كلاهما من المعارف فإنّ الله حجبه عن العبد رحمة به من جهة وابتلاء له من جهة.
أمّا الابتلاء فكما قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 7].
وأما الرحمة فكما قال عزّوجلّ: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ [المائدة: 101].
وهذا يعني أنّ هناك فجوة من المعرفة لن تزال موجودة في هيكل المعرفة الإنسانية، وهي منطقة الغيب التي يؤمر فيها العبد بالقبول والتصديق لها، وهذه الفجوة رغم وجودها فهي لا تؤثر على طبيعة الابتلاء وصحّته، ولا تمنع الامتثال، ولا تسبب اضطراباً معرفياً أو وجدانياً لأنّها وإن كانت غيباً في مضمونها فهي حقيقية ومتسقة مع سلسلة المعارف التي وهبها الله للبشر، ولهذا لم تكن مانعا للجيل الأوّل جيل أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلّم من بلوغ أعلى المراتب في الإيمان والصحة النفسية والقوة الشخصية العلمية والعملية، ولم تمنعهم كذلك من بناء الأمة وتشكيل الدولة وبسط الشريعة في أرجاء الأرض حتى دخل الناس في دين الله افواجاً طوعاً أو كرهاً.
لكن ومع هذا فإن هذه الفجوة تبقى نقطة الضعف عند الإنسان ويظل الشيطان يغزوه منها المرة بعد المرة تشكيكا له وإزعاجا عقليا ونفسيا وذلك بطرح التساؤلات التي لا يملك العقل فيها جوابا كافيا مسكتا لأنّه بكل بساطة عقل محدود الإمكانيات، حدوده التصورية والحكمية مهما بلغ من العلم والقدرة فهو محدود، لا يستطيع تصور كثير من الأشياء التي يلامسها ويتعامل معها يوميا ولا يعرف حقيقة كُنْهها فما بالك حين يكون الأمر متعلقا بمبدأ الوجود، حيث كان العبد غير موجود وقتها فلم ير ولا يُخبر ولم يسمع.
وأعظم ذلك وأخطره السؤال عن الله تعالى، عن ذاته وصفاته وأفعاله، وقمة الخطر حين يكون عن وجوده تعالى.
وهذه الأسئلة والتطلع لها موجود منذ الأزل ولا يزال الشيطان يوردها على كل أحد يؤمن بوجود خالق للكون، ولم يكن المسلمون بمعزل عنها بلاشك، بل هم أولى الناس بحرب الشيطان إذ هم أقرب الناس إلى الله، وأكثرهم إيماناً، كما قال ابن عباس لمن قال له :إنّ اليهود تزعم إنها لا توسوس في صلاتها؟ فقال: «وما يفعل الشيطان بالبيت الخراب».
وهذا الأمر عالجه الشرع على لسان النّبيّ صلى الله عليه وسلّم، فقد ورد منه التوجيه ابتداء كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أعلاه.
وورد عنه كذلك التوجيه ردا على من شكا إليه من الصحابة توارد هذه الخواطر وأمثالها على النفس، فعن أبي هريرة؛ قال: جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: «وقد وجدتموه؟ » قالوا: نعم، قال«ذاك صريح الإيمان».
وقد تضمّن توجيهه صلى الله عليه وسلّم أمرين مهمين: الأوّل: علاج المشكلة من جهة عَملية حين أمر بالانتهاء والكف عن التفكير في الأمر، مع الاستعاذة بالله من الشيطان، وهذا يعني أنّ السؤال المطروح لا ينتج علما، ولو كان ينتج علما لأجاب النّبيّ صلى الله عليه وسلّم، وإنما بينه انه وسوسة يعني أنّ الجواب عن هذا السؤال مجرد مدخل لسؤال آخر يولد سؤالا غيره حتى يدخل العبد في مرحلة الشك والاضطراب ومن ثم الإنكار والإلحاد.
والتوجيه الآخر علاج المصاب نفسه الذي تورثه هذه الوساوس شكا في إيمانه وظنا أنه فاسد الإيمان إذ تواردت عليه، فأخبرهم صلى الله عليه وسلّم أنّ ورودها دليل على صحة الإيمان وصحة الطريق الذي تسلكونه ولو ذاك ما اعترضك قاطع الطريق أعني الشيطان بوسوسته.
وسنذكر أهم ما قيل في شرح الحديث من كلام أئمة العلم، ثم أعقب بفوائد وإضافات.
Powered by Froala Editor
Powered by Froala Editor
Powered by Froala Editor
قم بتسجيل الدخول حتى تستطيع التعليق