إطلاق تجريبي
إنكار قدرة الله على خلق أفعال العباد .
منذ القدم تبلورت لدى بعض أتباع الدّيانات المختلفة فكرة ناشئة عن تصوّر فاسد، تقول هذه الفكرة: إنّ الإله الرب لا يخلق الشّر ولا يُنسب إليه على سبيل الإبداع والتقدير.
والتّصوّر الّذي قامت عليه هذه الفكرة هو: أنّه إذا كان الرب خالقاً للشّرور مقدّراً لها لزم أن يتّصف بالشّر والقبح الّذي يخلقه، والإله مُنزه عن الشّرور.
ومن أشهر القائلين بنفي نسبة خلق الشرور للبارئ تعالى المجوسوالدّيصانيّة والمزدكيّة، قال ابن حزم حاكياً عنهم حجّتهم على قولهم هذا: «قالوا: وجدنا الحكيم لا يفعل الشّر، ولا يخلق خلقاً ثمّ يسلّط غيره عليه، وهذا عيب في المعهود، ووجدنا العالم كلّه ينقسم قسمين، كلّ قسم منهما ضدّ الآخر كالخير والشّر، والفضيلة والرّذيلة والحياة والموت والصّدق والكذب، فعلمنا أنّ الحكيم لا يفعل إلاّ الخير، وما يليق فعله به، وعلمنا أنّ الشّرور لها فاعل غيره وهو شرّ مثلها».
وفي الجملة الأخيرة تلمح التّلازم الّذي تصوّروه بين خلق الشّر وإحداثه وبين الاتّصاف به وهذا هو الموضع الّذي أخطؤوا فيه وتبعهم عليه من الإسلاميين من أضلّه الله منهم.
وأشير هنا إلى ملحوظتين:
أولاهما: أنّ المقصود بالشّرور في قول هؤلاء: المخلوقات والمحدثات، وإذا كانوا ينفون إحداث الله للشّر وقدرته عليه فمن باب أولى أنّهم ينفون قدرته تعالى على فعل الشّر والظلم، وهذا يأتي في مسألة لا حقة.
والأخرى: أنّ مقصودهم بهذا النّفي تنزيه البارئ بناء على أنّ خالق الشّر عندهم شر هو بنفسه، ولهذا برروا وجود الشرّ بأنّه مخلوق بواسطة .
قال ابن حزم رحمه الله: «فإنّ المتكلّمين ذكروا عنهم أنّهم يقولون: إنّ البارئ عزوجل لمّا طالت وحدته استوحش فلما استوحش فكّر فكرة سوء فتجسّمت فاستحالت ظلمة فحدث منها أهرمن وهو إبليس... وشرع أهرمن في خلق الشّر».فحتّى إبليس ابتعدوا عن التلفظ بخلق الله له وكذلك الظّلمة، بل أضافوا خلقه إلى نفسه حيث قالوا «فاستحالت» ولم يقولوا: خلقها الله، لأنّهم يعلمون أنّه يلزمهم في هذا ما يلزمهم في سائر الشّرور.
وفي ظنّي أنّ قوّة ذلك التصوّر الفاسد الّذي ظنّوه مقتضى التّنزيه هو الّذي ساعد على انتقال العقيدة الزرادشتيّة من التّوحيد إلى الثّنويّة، فجعلوا للخير إلهاً وللشّرّ إلهاً آخر.
وهذه الفلسفة بعينها تبنّاها رؤوس القدريّة ومن نحا نحوهم من أهل القبلة في نفي خلق الله للشّرور والقبائح، فهي داخلة تحت أصل التّوحيد لديهم والّذي فيه تنزيه الله تعالى عن النّقائص.
وأضافوا إلى ذلك نفي قدرته تعالى على أفعال الحيوان الاختيارية وأخرجوها من عموم خلقه من جهة ما يقتضيه أصل العدل الّذي بنوه على أنّ الله منزه عن الظّلم والجور، إذ خَلْق الكفر والمعصية في العبد ثمّ عقوبته عليها ظلم في تصوّر هؤلاء، من جهتين:
الأولى: من جهة أنّ القول بأنّ الله هو خالق فعل العبد يلزم منه عندهم أنّ العبد لا قدرة له على الفعل ولا على التّرك.
الثّانية: من جهة أنّ الله تعالى واجب عليه فعل الأصلح للعبد:
فلو أنّ الله تعالى قادر على أفعال العبد ثمّ لم يخلق فيه الإيمان للزِم أنّه لم يفعل به الأصلح مع أنّه واجب عليه كما تقول المعتزلة، وأيضاً فلو أنّ أفعال العبد خلقه تعالى ومقدوره ثمّ هو يخلقه في بعضهم ويمنعه عن البعض الآخر فإنّ في ذلك ظلم لبعض العباد، تعالى الله عن ذلك، وهذا نقله أئمة المقالات عن النظّام إذ يقول: «إنّما يقدر على على ما يعلم أنّ فيه صلاحاً لعباده ولا يقدر على أن يفعل لعباده في الدّنيا ما ليس فيه صلاحهم...ولايوصف البارئ تعالى بالقدرة على أن يزيد في عذاب أهل النّار شيئاً ولا على أن ينقص منه شيئاً، وكذلك لا ينقص من نعيم أهل الجنّة ولا يخرج أحداً من أهل الجنّة وليس ذلك مقدوراً له».
قال شيخ الإسلام رحمه الله: «القدرية الثانية المجوسية: الذين يجعلون لله شركاء في خلقه كما جعل الأولون لله شركاء في عبادته، فيقولون: خالق الخير , غير خالق الشر , ويقول من كان منهم في ملتنا: إن الذنوب الواقعة ليست واقعة بمشيئة الله تعالى , وربما قالوا: ولا يعلمها أيضا ويقولون: إن جميع أفعال الحيوان واقع بغير قدرته ولا صنعه فيجحدون مشيئته النافذة وقدرته الشاملة، ولهذا قال ابن عباس: القدر نظام التوحيد، فمن وحّد الله وآمن بالقدر تم توحيده، ومن وحد الله وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده ، ويزعمون أن هذا هو العدل ويضمون إلى ذلك سلب الصفات , ويسمونه التوحيد».
وبناء عليه طردوا هذا الأصل ونفوا خلق الله لأفعال العبد تنزيهاً لله عن الظّلم ـ زعموا ـ وهذا النفي منهم معناه أنّ الله تعالى لا يُوصف بالقدرة على أفعال العبد.
إذاً فإنكار شمول قدرة الله تعالى لأفعال العباد داخل تحت هذين الأصلين المعتزليين: التّوحيد والعدل.
قال القاضي عبدالجبار: «والغرض به الكلام في أنّ أفعال العباد غير مخلوقة فيهم وأنّهم المحدثون لها».
ويقول في موضع آخر: «اتّفق أهل العدل على أنّ أفعال العباد من تصرّفهم وقيامهم وقعودهم حادثة من جهتهم وأنّ الله عزوجل أقدرهم على ذلك ولا فاعل لها ولا محدث سواهم وأنّ من قال: إنّ الله سبحانه خالقها ومحدثها فقد عظم خطؤه».
ولإثبات القدرية خالقاً غير الله سُمّوا مجوس هذه الأمة ، وهم بهذا القول واقعون في الشّرك بالله تعالى كما بيّنه شيخ الإسلام رحمه الله ، وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله مشابهة قولهم لقول الفلاسفة في حركة الأفلاك حيث قال منكراً على الفلاسفة: «ولهذا كان حقيقة قولهم إن الحوادث تحدث بلا محدث لها، وقولهم في حركة الفلك يشبه قول القدرية في حركة الحيوان، فإن القدرية تقول إن الحيوان قادر مريد وإنه يفعل ما يفعل بدون سبب أوجب الفعل بل مع كون نسبة الأسباب الموجبة للحدوث إلى هذا الحادث وهذا الحادث سواء فإن عندهم كل ما يؤمن به المؤمن ويطيع به المطيع قد حصل لكل من أمر بالإيمان والطاعة لكن المؤمن المطيع رجح الإيمان والطاعة بدون سبب اختص به حصل به الرجحان والكافر بالعكس، وهذا يقوله هؤلاء في حركة الفلك إنه يتحرك دائما بإرادته وقدرته من غير سبب أوجب كونه مريدا قادرا مع أن إرادته وقدرته وحركاته حادثة بعد أن لم تكن حادثة من غير شيء جعله مريدا متحركا فقد حصل الممكن بدون المرجح التام الذي أوجب رجحانه وحصل الحادث بدون السبب التام الذي أوجب حدوثه» .
وتبعهم على أصلهم الرافضة الإمامية، قال شيخ الإسلام رحمه الله: «ومن تمام قول الإمامية..أنّ الله لم يخلق شيئاًمن أفعال الحيوان.. بل هذه الحوادث تحدث بغير قدرته ولا خلقه»، وهو منقول عن بعض الزيدية،وبعض الإباضيّة، وبعض المعتزلة غلا حتى أخرج القدرة الّتي يفعل العبد بها عن قدرة الله تعالى .
ويجدر بالذكر أنّ القدريّة تنازع في الأعراض لا في الأعيان، فلا تنكر خلق الله للعبد وإنّما تنكر خلق الله للعرض القائم به وهو الفعل خاصّة .
وأهمّ من هذا، أنّ المعتزلة في حقيقة الأمر ينكرون شمول قدرة الله لأفعال العباد، وبعضهم يقول: لا يوصف بالقدرة عليها، وهذا ثابت من أقوالهم الصريحة وليس من مجرد لوازم مذهبهم، كما قال القاضي عبدالجبار: «ولهذا لا يُعدّ كونه تعالى غير موصوف بالقدرة على أفعال العباد نقصا لمّا استحال كونها مقدورة له«.
وقال كذلك في مناقشة الأشاعرة في إثباتهم قدرة الله على أفعال العباد: « ومما يتعلقون به قولهم: قد ثبت أنّه تعالى قادر لذاته، ومن حق القادر لذاته أن يكون قادرا على أجناس المقدورات، ومن جملة المقدورات أفعال العباد، فوجب أن يكون قادرا عليها.
الجواب: قلنا: لم وجب ذلك ومن أين ثبت» .
قال شارح العقيدة الطحاوية ابن العز :«والذي عليه أهل السنة والجماعة: أن كل شيء بقضاء الله وقدره، وأن الله تعالى خالق أفعال العباد. قال تعالى: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} [القمر: 49]. وقال تعالى: {وخلق كل شيء فقدره تقديرا} [الفرقان: 2]. وأن الله تعالى يريد الكفر من الكافر ويشاؤه، ولا يرضاه ولا يحبه، فيشاؤه كونا، ولا يرضاه دينا».
الإيمان بقدرة الله تعالى أمر فطري متعلّق بالإيمان بوجوده وربوبيّته تعالى، وقد سجّل لنا القرآن والسنّة أنّ البشريّة في فترات منها انحرفت عن الصّراط المستقيم والفطرة السّليمة فوُجد من ينكر شمول قدرة الله تعالى على اختلاف بينهم في السّبب الباعث على هذا الاعتقاد، والفلسفة الّتي يبرر بها المنكِر إنكارَه.
كما تبعهم على ذلك طوائف ممن ينتسب إلى الإسلام فأنكروا قدرة الله تعالى على أشياء معيّنة، سواء صرّحوا بأنّهم يعنون إنكار شمول القدرة أو كان عدم إيمانهم بشمول القدرة سبباً في أقوالهم تلك، مع أنّ الغالب أنّ إنكار القدرة يخرج في قالب التّنزيه لله تعالى كما سيمرّ معنا إن شاء الله.
وفي هذا الكتاب تناول المؤلف ما أخرجه المخالفون عن أن يكون مقدوراً لله، وكذلك ما فيه قدح في قدرة الرب تعالى وكمالها، مفنّداً شبه المخالفين فيما كان لهم فيه شبهة على ضوء كلام أئمّة السّلف رحمهم الله تعالى أجمعين.
Powered by Froala Editor
Powered by Froala Editor
Powered by Froala Editor
قم بتسجيل الدخول حتى تستطيع التعليق