صفة الصفوة لابن الجوزي

صفة الصفوة لابن الجوزي

778

منذ سنة

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، أيها الإخوة، أيتها الأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

موضوع اليوم مقدِّمة كتاب "صفة الصفوة"، للإمام العلامة، الحافظ، الأصولي، المفسِّر، عالم العراق، وواعظ الآفاق، جمال الدين، أبي الفرج، عبدالرحمن بن علي الجوزي، الذي ينتهي نَسبه إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه والذي وُلِد سنة عشر وخمسمائة تقريبًا، وتوفّي سنة سبع وتسعين وخمسمائة.

 

ومن بدائع كلامه:

عقارب المنايا تَلسَع، وخَدَران جسم الأمل يمنع الإحساس، وماء الحياة في إناء العمر يرشح بالأنفاس، وقال لصاحب له: أنت في أوسع العُذْر من التأخير عني لثِقتي بك، وفي أضيقه من شوقي إليك، وقال له رجل: ما نَمتُ البارحة من شوقي إلى مجلس وعظِك، فأجابه: لأنك تُريد الفُرْجة، وإنما ينبغي الليلة ألا تنام، يريد من تأثُّرك من الوعظ، ومن كلامه: مَن قنَع طاب عيشُه، ومن طمِع طال طيشُه، وقال يَعِظ الخليفة: يا أمير المؤمنين، إن تكلَّمتُ خفتُ منك، وإن سكتُّ خفتُ عليك، فأنا أقدِّم خوفي عليك على خوفي منك، أقول قول الناصح: اتقِ الله، خير من قول القائل: أنتم أهل بيت مغفور لكم.

 

كان ابن الجوزي لطيف الصورة، حُلو الشمائل، رخيم النغمة، موزون الحركات والنغمات، لذيذ المُفاكَهة، يحضُر مجلسَه الآلافُ، لا يُضيِّع من وقته شيئًا، وله في كل علمٍ مشارَكة، ولكنه كان في التفسير من الأعيان، وفي الحديث من الحفَّاظ، وفي التاريخ من المتوسِّعين، ولديه فقه كافٍ، وأما السجع الوعظي، فله فيه مَلَكة قويَّة، وكان يُراعي حفظَ صحَّته، وتلطيف مزاجه، وما يُفيد عقلَه قوة، وذهنَه حِدة، وله ذهن وقَّاد، وجواب حاضر، ومُداعبات حُلوة، قال الإمام الذهبي عنه: ما علِمتُ أحدًا من العلماء صنَّف ما صنَّف هذا الرجل، وقال ابن النجار عنه: وكان - رحمه الله - مع هذه الفضائل والعلوم الواسعة ذا أورادٍ وتألُّه، وله نصيبٌ من الأذواق الصحيحة، وحظٌّ من حلاوة المناجاة. وقد أشار هو إلى ذلك، ولا ريب أن كلامه في الوعظ والمعارف ليس بكلام ناقل أجنبيٍّ مجرَّد عن الذوق، بل كلام مشاركٍ فيه.

 

أيها الكرام، ونبدأ الآن بالاقتطاف من مقدمة كتاب "صفة الصفوة" التي افتتح بها ابن الجوزي - رحمه الله - كتابه قائلاً:

الحمد لله وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، حمدًا إذا قابَل النِّعم وفَى، وسلامًا إذا بلغ المصطفَيْنَ شفَى، وخصَّ الله بخاصة ذلك نبيَّنا المصطفى، ومَن احتذى حَذوه من أصحابه وأتباعه واقتفى، ووفَّقنا لسلوك طريقهم فإنه إذا وفَّق كفى.

 

أما بعد:

فإنك أيها الطالب الصادق، والمريد المُحقِّق، لما نظرتَ في كتاب: حلية الأولياء؛ لأبي نعيم الأصبهاني، أعجبك ذِكر الصالحين والأخيار، ورأيتَه دواءً لأدواء النفس، إلا أنك شكوتَ من إطالته بالأحاديث المُسنَدة التي لا تَليق به، وبكلام كثير عن بعض المذكورين فيه، قليل الفائدة، وسألتني أن أختَصِره لك، وأنتقي محاسنه، فقد أعجبني منك أنك أصبتَ في نظرك، إلا أنه لم يُكشَف لك كل الأمر، وأنا أكشِفه لك فأقول: اعلم أن كتاب الحلية قد حوى من الأحاديث والحكايات جملةً حسنة، إلا أنه تكدَّر بأشياءَ، فالأشياء التي تَكدَّر بها عَشَرة - ويذهب ابن الجوزي - رحمه الله - يُعدِّد هذه العيوب، فيَذكُر منها -: أن أبا نعيم قصَد ما ينقل عن الرجل المذكور، ولم ينظر هل يليق بالكتاب أم لا؟ مِثل ما ملأ ترجمة مجاهد وعكرمة - رحمهما الله - بقِطعٍ من تفسيرهما، وترجمة كعب الأحبار بقطعة من التوراة، وليس هذا بموضِع هذه الأشياء، والثاني: إعادة أخبار كثيرة وتَكرارها، الثالث: إطالته بذِكر الأحاديث المرفوعة، ومعلوم أن مِثل كتابه الذي يُقصَد به مُداواة القلوب إنما وُضِع لبيان أخلاق القوم، لا الأحاديث، ولكل مقام مقال، ثم لو كانت الأحاديث التي ذَكَرها من أحاديث الزُّهد اللائقة بالكتاب، لقَرُب الأمر، ولكنها من كل فن، وعمومها من أحاديث الأحكام والضعاف.

 

والمأخذ الرابع - أيها الكريم الذي أخذه ابن الجوزي على أبي نعيم -: أنه ذكَر في كتابه أحاديث كثيرة باطلة وموضوعة، فقصد بذِكرها تكثير حديثه، وتنفيق رواياته، ولم يُبيِّن أنها موضوعة، ومعلوم أن جمهور المائلين إلى التبرُّر (وسلوك طريق تزكية النفس وتهذيبها) يخفى عليهم الصحيح من غيره، فسَتْرُ ذلك عنهم غِش من الطبيب لا نُصْح.

 

والمأخذ الخامس: السجع البارِد في التراجم الذي لا يكاد يحتوي على معنى صحيح، خصوصًا في ذِكر حدود التصوف، والسادس: إضافة التصوُّف إلى كبار السادات كالخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - والأئمة الأربعة - رحمهم الله - وليس عند هؤلاء القوم خبر من التصوف، فإن قال قائل: إنما عنى به الزهد في الدنيا، قلنا: التصوف مذهب معروف عند أصحابه، لا يُقتَصر فيه على الزهد، بل له صفات وأخلاق يعرفها أربابه، ولولا أنه أمرٌ زِيدَ على الزُّهد، ما نُقِل عن بعض هؤلاء المذكورين ذمُّه.

 

والمأخذ السابع: أنه ذكَر أشياء عن الصوفيَّة لا يجوز فِعْلها، فربما سمعها المبتدئ القليل العلم، فظنَّها حسنةً، فاحتذاها، مِثل: ما روى عن أبي حمزة الصوفي أنه وقع في بئر، فجاء رجلان فطمَّاها، فلم يَنطِق؛ حملاً لنفسه على التوكُّل بزعمه، وسكوته في هذا المقام إعانةٌ على نفسه، وذلك لا يَحِلُّ له، ولو فَهم معنى التوكل لعلم أنه لا يُنافي استغاثته في تلك الحال، كما لم يَخرُجْ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- من التوكل بإخفائه الخروج من مكة، واستئجاره دليلاً، واستكتامه، واستتاره في الغار، وقوله لسراقة: ((أخفِ عنا))، والتوكل إنما هو اعتماد القلب على الله - سبحانه - وليس من ضرورته قطع الأسباب، ولو أن إنسانًا جاع فلم يأكل، أو احتاج فلم يسأل، أو عَرِي فلم يلبس، فمات، دخل النار؛ لأنه قد دلَّ على طريق السلامة، فإذا تَقاعَد عنها أعان على نفسه.

 

أيها الكرام:

والمأخذ الأخير الذي نختاره لنختم به ما عدَّده ابن الجوزي على كتاب الحلية لأبي نُعيم: أنه خلَط في ترتيب القوم، فقدَّم مَن ينبغي أن يؤخَّر، وأخَّر مَن ينبغي أن يُقدَّم، فعل ذلك في الصحابة وفيمن بعدهم، فلا هو ذكَرهم على ترتيب الفضائل، ولا على ترتيب المواليد، ولا جمَع أهل كل بلدٍ في مكان، وربما فعل هذا في وقت، ثم عاد فخلط، خصوصًا في أواخر الكتاب، فلا يكاد طالب الرجل يهتدي إلى موضِعه.

 


ويمضي ابن الجوزي في مقدمته قائلاً: وأما الأشياء التي فاتتْه، فأهمها ثلاثة:

أحدها: أنه لم يذكر سيد الزُّهاد، وقدوة الخَلْق، محمدًا صلى الله عليه وسلم ، والثاني: أنه ترك ذِكْر خلقٍ كثير قد نُقِل عنهم من التعبد والاجتهاد الكبير، ولا يجوز أن يُحمَل ذلك منه على أنه قصَد المشتهرين بالذِّكر دون غيرهم، فإنه قد ذكَر خلقًا لم يُعرَفوا بالزهد، ولم يُنقَل عنهم شيء، وربما ذكَر الرجل فأسنَد عنه أبيات شعر فحسب، ففعلُه يدل على أنه أراد الاستقصاء، وتقصيره في ذلك ظاهر.

 

والثالث: أنه لم يذكُر من عوابد النساء إلا عددًا قليلاً، ومعلوم أنّ ذِكر العابدات مع قصور الأنوثية يوثِّب المقصِّر من الذكور، فقد كان سفيان الثوري - رحمه الله - ينتفع برابعة العدويَّة، ويتأدَّب بكلامها.

 

ويمضي ابن الجوزي في مقدِّمته قائلاً:

وقد حداني جِدُّك أيها المريد في طلبِ أخبار الصالحين وأحوالهم أن أجمع لك كتابًا يُغنيك عن كتاب أبي نعيم، ويحصُل لك المقصود منه، ويَزيد عليه بذكر جماعة لم يذكرهم، وأخبار لم ينقُلها، وجماعة وُلِدوا بعد وفاته، ويَنقُص عنه بترك جماعة قد ذكرهم لم يَنقُل عنهم كبيرَ شيء، وحكايات قد ذكرها، فبعضها لا ينبغي التشاغل به، وبعضها لا يليق بالكتاب، على ما سبَق بيانه.

 

وإنما أنقُل عن القوم محاسن ما نقل مما يليق بهذا الكتاب، ولا أنقل كل ما نقل؛ إذ لكل شيء صناعة، وصناعة العقل حُسْن الاختيار، وكما أني لا أذكُر ما لا يَصلُح، لا أذكُر من لا يَصلُح أن يُقتدى به، ممن هو في صورة العلماء والزُّهاد، وقد تجوَّزتُ بذكر جماعة من المتصوِّفة وردت عنهم كلمات مُنكَرة، وكلمات حِسان، فانتخبت من محاسن أقوالهم؛ لأن الحكمة ضالة المؤمن، ومع تنقِّينا، وتوقِّينا، وحذف مَن لا يَصلُح، وما لا يَصلُح، فقد زاد عددُ مَن في كتابنا على ألف شخص، يَزيد الرجال على ثمانمائة، وتَزيد النساء على مائتين، ولم يبلُغ عدد رجال الحلية ستمائة، ولا أظنُّه ذكر في جميع الكتاب عشرين امرأة، وإلى الله أرغبُ في النفع بكلمات المتَّقين، واللحوق بدرجات أهل اليقين، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه.

 

أيها الكرام:

بهذا ينتهي الإمام ابن الجوزي - رحمه الله - من تقديمه لكتابه "صفة الصفوة"، وننتهي نحن من حديث اليوم، فإلى المُلتقى مع مقدمة أخرى لكتاب آخر، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

------------------------------------------------------

د. أحمد البراء الأميري

المصدر: شبكة الألوكة

Powered by Froala Editor