ما هي الأسباب التي دفعت إلى انتشار المذهب المالكي في المغرب؟

ما هي الأسباب التي دفعت إلى انتشار المذهب المالكي في المغرب؟

13

منذ سنة


الحمد لله حمدا يليق بجماله وجلاله, والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه

إن من نعم الله الكبرى على الأمة الإسلامية، تكريمها بالرسالة المحمدية، الخاتمة للشرائع السماوية, الجامعة للمصالح البشرية, الواردة بالأصول الكلية - لطفا منه سبحانه ورحمة بعباده- لتستنبط منها الأحكام الملائمة لكل جيل وبيئة، تاركة المجال فسيحا لذوي المؤهلات الاجتهادية، مواصلة التشريع الفرعي والجزئي لكل نازلة. وإيجاد حلول شرعية لمختلف القضايا المتجددة، في نطاق النصوص الكلية للشريعة السمحة، دون الخروج عن أهدافها العامة، ومقاصدها السامية.

وقد طبق -عمليا- خدام الشريعة هذه المنهجية السليمة عبر المراحل التي مر فيها الفقه الإسلامي، الذي بلغ القمة في عهد الأئمة الكبار، انطلاقا من ظهور مدارسه التي تبلورت إلى مذاهب، كل له منهاجه في الاستنباط، وتلاميذه وأتباعه، يمدهم بالرواية والدراية الفقهية, ويدرس النوازل الواقعة، بل منهم من تناول الفرضية منها، والكل يستنطق الينبوع الأساسي للتشريع الإسلامي كتاب الله - أولا، وسنة رسول الله - ثانيا، ثم المصادر الأخرى - ثالثا. 

وهنا اختلفت الآراء إلا أن الاختلاف لم يكن - في الواقع - في ذات الدين، ولا في لب الشريعة، وإنما اختلاف في فهم نصوصها، وتطبيق كلياتها على الفروع، وأخذ كل بما استقام في نظره، وبما رآه جديرا أن يعتبر كمصدر، فمنهم من وسع في هذا الشأن، ومنهم من اقتصر، ومما لا ريب فيه أن البيئة الطبيعية، والاجتماعية، والسياسية - التي كانت تحيط بكل إمام- لعبت دورا بارزا في اختلاف النظر الى الوقائع، وفي تقدير الأدلة وفهمها وتأويلها مما أدى إلى تعدد المذاهب.

أهم المذاهب الفقهية:

يمكن تقسيم المذاهب الفقهية عموما إلى نوعين سني، وغير سني، وكل نوع يتفرع إلى عدة فروع، ويهمنا منها النوع السني الذي يتفرع بدوره -باعتبار الانتشار والاندثار- إلى ثلاثة فروع

أ- فرع نشأ لكنه لم يكتب له البقاء والانتشار، كمذهب محمد بن ابي ليلى (ت ١٤٨ هـ)، ومذهب سفيان الثوري (ت ١٦١ هـ)، ومذهب الليث بن سعد (ت ١٧٥ هـ)، ومذهب سفيان بن عيينة (ت ١٩٨ هـ)، وغيرها من المذاهب التي اندثرت بموت أصحابها.

ب - فرع تكون واستمر لوقت محدود, كمذهب عبد الرحمان الأوزاعي (ت ١٣٦ هـ)، ومذهب داوود الظاهري (ت ١٧٠ هـ). ومذهب محمد بن جرير الطبري (ت ٣١٠ هـ).

ج - أما الفرع الثالث الذي أسعده الحظ في الاستمرار والانتشار, ووقف التقليد عنده في سائر الأقطار -إلى حد الآن- فينحصر في المذاهب التالية

١- المذهب الحنفي:

وإمامه أبو حنيفة النعمان، ولد بالكوفة (٨٠ هـ) وتوفي ببغداد (١٥٠ هـ)، وقد انتشر مذهبه بالكوفة والعراق، والشام، ومصر، والجزيرة

العربية، وشمال إفريقيا، وغيرها من البلدان الَّتِي كان منفردا فيها، إلا أنه سرعان ما نافسته المذاهب الأخرى حينما بزغت، فتقلص في بعضها، واضمحل في بعضها الآخر، ورغم ذلك فلا زال معمولا به في العراق مطلقا، وفي الفتيا والقضاء -فقط- في جل البلدان الَّتِي كانت خاضعة للدولة العثمانية، كمصر، وسوريا، ولبنان ... كما لازال مذهب الأغلبية- في الأمور الدينية- لدى مسلمي تركيا، وباكستان، وأفغانستان، والهند، وروسيا، وغيرها من البلدان الَّتِي لا زال له فيها اتباع- عدا المغرب، رغم أنه من أولى المذاهب الَّتِي دخلت إليه.

٢- المذهب المالكي:

وإمامه مالك بن أنس، ولد بالمدينة المنورة (٩٣ هـ)، وبها توفي (١٧٩ هـ)، وهو مستغن بشهرته عن التعريف به، وقد أورد القاضي عياض في "المدارك"، والسيوطي في "تزيين المسالك"، والزواوي في "مناقب مالك" وغيرهم، من ثناء الأئمة عليه علما، ودينا، وورعا، وثباتا .. ما فيه كفاية.

وقد انتشر مذهبه في الحجاز، ومصر، والسودان، والكويت، والبحرين، وتونس، والجزائر، والأندلس، والمغرب الأقصى - البلد الوحيد الذي أضحى فيه بدون منافس، وله أتباع في جل البلدان الإسلامية الأخرى.

٣- المذهب الشافعي:

وإمامه محمد بن إدريس الشافعي، ولد بغزة (١٥٠ هـ) ونشأ بمكة، وربي بهذيل، وتوفي بمصر (٢٠٤ هـ). وانتشر مذهبه الثاني في مصر، والأردن، وسوريا، ولبنان، وفلسطين، وباكستان، والهند، وإندونيسيا، ولدى السنيين في إيران، واليمن، وغيرها من البلدان الَّتِي لا زال له فيها أتباع - عدا المغرب.

٤- المذهب الحنبلي:

وإمامه أحمد بن حنبل، ولد وتوفي ببغداد (١٦٤ - ٢٤١) وكان إماما في الحديث بدون منازع، وانتشر مذهبه في المشرق عموما، غير أنه مع مر الأيام كاد أن يندثر -حيث لم يبق له حتى في البلدان الَّتِي انتشر فيها غير صدي خافت- لو لم يحيه محمد بن عبد الوهاب في القرن الثاني عَشر الهجري، ومنذئذ انتعش، وأصبح له أتباع في بعض البلدان الإسلامية كالحجاز، والشام .... عدا المغرب.

من هذا يتضح أن المذاهب الفقهية السنية الَّتِي كتب لها البقاء، كانت -ولا زالت- منتشرة ومتنافسة في جل البلدان الإسلامية، باستثناء المغرب الأقصى الذي تسنم عرشه المذهب المالكي منذ أن تقلده المغاربة، رغم محاولة بعض ملوك الموحدين القضاء عليه- لكن بدون جدوى، الشيء الذي يدعو إلى طرح الأسئلة التالية لماذا انفرد المذهب المالكي بالنفوذ في المغرب؟ وما هي البواعث الَّتِي دفعت أهله إلى التمسك به تمسك الرضيع بأمه؟ وهل ذلك عن اختيار واقتناع بصلاحيته؟ أم فرض عليهم بالقوة- كما يدعي البعض؟ أم أن ذلك كان كنتيجة حتمية لعدم تعرفهم على المذاهب الأخرى؟

وأن المستنطق لتاريخ المغاربة سيجد أنهم كانوا يتسمون بالصلابة في الرأي، والتروي في اتخاذ المواقف الحاسمة، وعدم إقبالهم -بلهفة على كل جديد، وعدم تأثرهم بسرعة بكل وارد -كما هو ملاحظ اليوم- إلا بعد اختبارهم إياه، والتثبت منه بأنه يتلاءم مع مزاجهم، وبيئتهم الاجتماعية والعرفية، والعقلية والنفسية ... وهذا الموقف نفسه وقفوه إزاء الإسلام حيث لم يعتنقوه اعتناقا صادقا، وآمنوا به إيمانا عميقا امتزج بدمهم ولحمهم، إلا في الكرة الثانية عشرة- كما يذكر ذلك ابن أبي زيد القيرواني- حينما تيقنوا أنه ليس له مثيل.

ومنذئذ لم يرضوا به بديلا، وصاروا يدافعون عنه -ولا زالوا- بكل ما أوتوا من قوة، وكفاهم فخرا أنهم كانوا في طليعة الناشرين له في أوربا وأفريقيا.

وإذا كان هذا موقفهم مع الإسلام، فليس بصحيح ما ادعاه ابن حزم من أن المذهب المالكي لم ينتشر في الأندلس والمغرب إلا بالسلطة، ويفند زعمه هذا بالنسبة للمغرب ما قام به بعض ملوك الموحدين، وخاصة يعقوب المنصور من محاولات لمحو المذهب المالكي منه، بإحراق كتبه بالجملة، وإلزام المغاربة بالتخلي عنه رهبة، إلا أن النتيجة كانت عكسية، حيث ازداد المغاربة تمسكا به، نعم قد تكون السلطة سببا مكملا لحماية الإرادة الشعبية من تشكيكها في عقيدتها الأشعرية ووحدتها المذهبية، والعمل على تنقيتها من الطفيلات الشاذة.

كما ليس بصحيح -بتاتا- الظن بأن السبب في انتشار مذهب مالك واستمراره بالمغرب يرجع إلى عدم تعرف أهله على المذاهب الأخرى، لأن التاريخ يثبت بكيفية قاطعة، أن كثيرا من المذاهب السنية وغير السنية وفدت على المغرب، وعاشت فيه مدة، وحاولت التمركز فيه قبل وبعد إدخال المذهب المالكي إليه، غير أن المغاربة تخلوا عنها لسبب أو لآخر، وتمسكوا بمذهب مالك، وذلك لعدة عوامل

عوامل تمسك المغاربة بمذهب مالك:

ليس من اليسير في هذه العجالة تقصي كل العوامل والأسباب الَّتِي حفزت المغاربة إلى التشبث بمذهب مالك، لذا سأكتفي بالإشارة إلى البعض منها

١ - نشوء المذهب بالديار المقدسة.

٢ - ورود الأثر في صاحب المذهب.

٣ - إشادة مختلف الأئمة به.

٤ - تشابه البيئتين المغربية والحجازية.

٥ - طبيعة المذهب نفسه وخصائصه.

________________________________________

من كتاب: إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك (مع دراسة لحياة المؤلف وآثاره وعصره)
 المؤلف: أبو العباس أحمد بن يحيى الونشريسى
 المحقق: أحمد بو طاهر الخطابي، خريج دار الحديث الحسنية - الرباط
 أصل التحقيق: دراسة جامعية لنيل دبلوم الدراسات العليا في العلوم الإسلامية من دار الحديث الحسنية بالرباط

تحميل الكتاب PDF  اضغط هنـا

Powered by Froala Editor