الإسلام وأمته في القرن الخامس عشر

الإسلام وأمته في القرن الخامس عشر

7

منذ سنة

بسم الله، والصَّلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وسار على هديه وهداه إلى يوم الدين.

أمَّا بعد:

منذ ما يزيد على الأربعة عشر قرنًا من الزمان، بزغتْ شمس الإسلام من جزيرة العرب، ومن يومها واجهَ الإسلام أعداءً تكالبوا عليْه من كل حدب وصوب، وسجَّل الرَّسول - عليْه الصَّلاة والسَّلام - وصحبُه - رضوان الله تعالى عليْهِم - صمودًا بطوليًّا في وجْه المحاولات لثَنْيِهم عن دينِهم، ووَأْد الإسْلام في مهدِه.

ومع انتِشاره واجه الإسْلام أعداء مختلفين، وأحيانًا غير تقليديِّين، كبعض الفلاسِفة الملْحِدين من أهل الكلام والمنافقين مثلاً، الَّذين حاولوا زعْزعة الإسلام من قواعِدِه داخل قلوب المسلمين، إلاَّ أنَّهم فشلوا وتحطَّمت جهودهم، وغدا أمرهم - ولله تعالى الحمد والمنة - إلى سفال.

وهكذا تدور الأزْمان والأيَّام، وتتغيَّر الأوْضاع على ساحة الأمَّة، وتحدث انتِكاسات وانتصارات، إلاَّ أنَّ ما تجسَّد في الغزْو الفرنسي لمصْر في العقد الثَّاني من القرْن الهجري الثَّالثَ عشرَ كان تغييرًا مختلفًا عمَّا سواه، وكانت تلك الهزيمة هزيمة مُغايِرة لكل الهزائم قبلها، ويتلخَّص تميُّزُ هذا الغزْو عن غيره في نقاط مستمدَّة ممَّا ذكره الأستاذ محمد قُطب في كتابه "هل نحن مسلمون؟"، ألا وهي:

- أنَّ هذا الغزْو هو أولى الحروب التي يُهزم فيها المسلمون عن جدارة وتفوُّق في عدوِّهم، فالتفوُّق العلمي الفرنسي ولَّد - بإذن الله تعالى - تفوُّقًا في فنون القتال وخطط الحرْب وأسلحتها، وهو الأمر الَّذي افتقده المماليك وجيوشُهم في مصر.

- لَم يصمد المسلِمون في مصر لِهذه الصَّدمة المروِّعة، كما كانت عادتُهم قبل ذلك، بسبب ما كان يعترِي العقيدة من ضعْفٍ شديدٍ في قلوبِهم، منعهم من إعادة توازُنِهم وتكوين قوَّتِهم في إطار مؤسَّسي كامل، وتحت قيادة سياسيَّة إسلاميَّة موحَّدة.

- أعقب هذا الغزْو عمليَّة تغْريب للتَّشريع الحاكِم في مصر، فبعد أن كان الإسلام هو الحاكِم، قام نابليون بقصْرِه على أمور الأحْوال الشخصيَّة، فيما أحلَّ تشريعًا مستمدًّا من التَّشريع الفرنسي الوضْعي مكانه، وهذا يحصُل للمرَّة الأولى في بلاد المسلمين.

- الدَّور الكبير للبعْثة العلميَّة الفرنسيَّة التي اصطحبتْها الحملة، حيثُ حمل العلماء الفرنسيُّون معهم بعض المخترعات الحديثة، كالمطبعة وغيرها، إلى جانبِ التَّنظيمات الإداريَّة التي أحدثوها، وهي أمور لَم يَعْهَدْهَا المسلمون البسطاء في مصر، وقد بَهرتهم ببريق الحضارة الغربية وفَتَنَتْهُم بها.

- شكَّلت هذه الهزيمة - على كلِّ أصعدتِها - تمهيدًا لاجتِياح حضاري غربي للعالَم الإسلامي، وفتحت الباب على مصراعيْه لدَورٍ كبير للمفكِّرين الغربيِّين لزعزَعة عرْشِ الإسْلام ونشْر الحضارة الغربيَّة في مصر، ومن بعدها بقيَّة الأقْطار الإسلاميَّة.

ومن يومها تراجعتِ الحضارة الإسلامية أمام نظيرتها الغربيَّة، وظهر دين جديد نازع الإسلام على عرشه، وهو العَلمانية أو (الدنيوية)، وانحطَّ العالم انحطاطًا مرعبًا في باب الأخلاق والقيم السامية، واتُّخِذَتِ المادَّةُ وثنًا يُعبد من دون الله تعالى، وبات العالم تدريجيًّا - رغم تقدُّمه المادي - متخلفًا إنسانيًّا بشكل فاق العصور الجاهليَّة الَّتي محا الإسلام تأثيرَها المرعب على الإنسان.

ولأنَّ الضَّعيف يقلِّد القوي، فقد كانت مبادئ الغرْب وثقافاتُه الَّتي تنتشِر في الغرْب تَجِد طريقَها إلى العالم الإسلامي، تَحت شعاراتٍ مثل (التحديث)، و(التطوير)، و(الإصلاح)، ونحو ذلك، وبالتَّالي عانى المسلمون من كثيرٍ ممَّا عانى منه الغربيُّون، من أمراض نفسيَّة وعضويَّة ولَّدتها العلمانيَّة وما ينبثق عنها من مبادئ، وتقلَّب المسلمون بين كثير من النظُم التي انتشرت في الغرب، مثل الشيوعيَّة والرأسماليَّة، طلبًا ولهثًا خلف التقدُّم والتحضُّر والقوَّة، إلاَّ أنَّهم لم يجدوا شيئًا من ذلك كما نرى اليوم، وبناءً عليْه تآكلتِ الصورة المرْسومة عن شرائع الحضارة العَلمانيَّة، وبات المسلِمون يستفيقون يومًا بعد يوم على حقيقة أنَّ الإسلام هو الحلّ ليس لمشاكلهم فحسْب، ولكن لمشاكِلِ العالم كلِّه.

واليوم تُعطينا الأرْقام والحقائق على الأرْض صورة إعجازيَّة للانتِشار السَّريع للإسْلام في أرْجاء المعمورة، فالإسلام اليوم هو أسْرع الأديان انتشارًا، رغْم الضَّعف النِّسبي في جهود نشْر الإسلام مقارنة بالجهود التَّنصيريَّة، إلاَّ أنَّ مشكلة الأمَّة ليست في انتِشار الإسلام؛ ولكن في الذُّل والهوان والاستِضْعاف، ورُخص دماء المسلِمين وأعراضِهم؛ بل ومقدَّساتِهم في العالم، وهو الوضْع المؤسِف الَّذي لا يَخشى فيه بعضُ الغربيِّين من إجْراء مسابقة لأسوأِ رسْمة بحق رسولِنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - أو القرآن الكريم، ويأْمنُ فيه اليهود ومَن هاوَدَهم سفْك دماء المسلمين في بقاع شتَّى من العالم الإسلامي بلا عقاب، ولا يستحْيي دهاقنة السِّياسة العالميُّون من معاملة المسلمين كعبيدٍ أو خدَم من مرتبة دون بقيَّة الناس، والمآسي في هذا الباب طويلة، وهو الأمْر الَّذي لا يرْضاه مسلم، وهو الوَضْع الَّذي يجب أن يُعالجه المسلمون.

هذا فضلاً عن أنَّ سكوت المسلمين عمَّا يُعانيه العالم اليوم من إباحيَّة وبهيميَّة في الأخْلاق والقيم، واستباحة للمرأة، واستعباد لها، واستِرْقاق للضِّعاف من الفقراء، وابتزاز لهم، في سبيل إشباع النَّزوات الشيطانيَّة لقوًى معيَّنة - إنَّما هو مما سيسْأَلُنا الله - تعالى - عنه؛ لأنَّ الإسلام هو الدين الذي يجب أن يسود العالم، وتقوم عليه شرائع الجمعيَّات العالميَّة، وليس أنظمة واستراتيجيات ما يُسمَّى "القوى العظمى"، التي تبتزُّ العالم، وتمتصُّ خيراته، وتتحكَّم في مقدراته.

وأنَّى لفاقد الشَّيء أن يُعطيه؟! فكيف للمسلمين أن يُهدوا الإسلام إلى العالم، وأن ينصبوا له عرْشَه، وهم أصلاً لم يَلْتزموا بالإسلام كما يجب؟! وكيْف لهم ذلك، وقد جُرِّدوا من سُبُل القوَّة وطرائقها، الاقتِصادية والسياسيَّة والعلميَّة؟!

إنَّ على الأمَّة - من الآن فصاعدًا - أن تتبنَّى مشروعًا ضخمًا طويل المدَى، لإعادة نفسِها إلى القيادة، ولتنْصيب الإسلام تشريعًا للنظام العالمي؛ لأنَّ الإسلام حين كان كذلِك أفاض على العالم قيمًا سامية في إطار حضارة راقية، وقد آن الأوانُ لنُعيدَ ذلك الزَّمان، وللمشروع النهضيِّ الإسلامي قواعدُ يقوم عليْها، يجدر أن تكون قويَّة ومتقنة البناء، وهي:

عوْدة الأمَّة إلى الله تعالى، عودةً صادقة قائمة على الإقْناع والاقتناع، لا على العواطف الجيَّاشة أو المظاهر، مع نشْر للعلم الشَّرعي على مذهب أهل السنَّة والجماعة، ومواجهة البِدَع والفتن المختلفة.

تشْكيل وعي إسلامي على المستوى الرسمي والشَّعبي، بأهداف الأمَّة الإسلامية ومهمَّتها في العالم، التي كلَّفها الله تعالى بها، من نشْر الدين، وإعلاء كلمته؛ قال تعالى: {وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]، وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وقال جلَّ شأنه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ} [النحل: 125].

اتحاد الأمَّة الإسلاميَّة انطلاقًا من أخوَّة الدين، وفْق طرُق سياسيَّة واقتصاديَّة حديثة تكفُل للنَّسيج بإذن الله - تعالى - ترابُطًا أخويًّا قويًّا وصامدًا.

السَّعي بالأمَّة لامتِلاك القوَّة الماديَّة، تتمَّة لقوَّتِها المعنوية، وتسخير ذلك في سبيل تحقيق أهدافها ونشْر دينها، والتغلُّب على عدوِّها ورفع الحضارة الإسلامية فوق كلِّ حضارة، وإعادة تشييد النظام العالمي بناءً على الإسلام.

وكما يُرى، فإنَّ هذه القواعد التي يقوم عليها أمر أمَّتنا مهمَّة جدًّا، ومتكاملة فيما بينها، وقائمة على بعضها، وذلك يدلُّ على أنَّ العمل على بنائها يجب أن يقوم به الربَّانيون من أبناء الأمَّة، وعلى رأسهم العلماء العاملون المخْلِصون.

كما يَجدر بأخيار الأمَّة من الدعاة والعلماء توحيد جهود الصَّحوة ومدارسها، بما يكفل جَمْع الكلمة، وتوجيه القُدُرات نحو تحقيق الأهداف المرجوَّة، بشكْلٍ مرحلي تدريجي، إلى جانب افتِتاح مراكز إعداد الدُّعاة، ليس في أقاليم معيَّنة؛ ولكن على مستوى العالَم الإسلامي؛ نشرًا للدَّعوة، وإرْصادًا للمنصِّرين، إضافة إلى إنشاء صفوف من المفكِّرين الإسلاميين، الذين يُخصصون لمواجهة الأطروحات الفكريَّة العَلمانية، وتقديم دراسات استِغْرابية، على غرار نظيرتها (الاستِشْراقيَّة)؛ لتكوين مكتبة إسلامية تحتوي على صورة كافية للحضارة الغربية من داخلها.

وإلى جانب الدَّور السابق، فإنَّ المرجوَّ من علمائنا وطلابهم، ومعهم الأكاديميون والمفكرون، والسياسيون ورجال الاقتصاد والإعلاميون - السعي في رأْب صدع التشرذم الإسلامي، ومحاولة جمْع الأمَّة وتوحيد كلِمتها على سنَّة الرَّسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وإقامة نظام إسلامي موحَّد، يتَّخِذ من إحدى الأنظِمة الاتِّحاديَّة الحديثة شكلاً لوحدته.

ولن يحدث ذلك أو يلحقه شيءٌ من الإنجاز وتحقيق الأهداف، حتى نتبنَّى المشروع في خطابنا ودورنا في المجتمع؛ إذْ إنَّ العمل المفرّق والمبهم الهدف، هو عمل لا يجْذب النَّاس كما يجذبهم العمل الذي له هدف مخطَّط له؛ فالعامَّة لا يعطون من أنفُسِهم في مشوار لا يعلمون نِهايته، وهذه مشكلة بحد ذاتِها؛ إذ إنَّ تحمُّل مجموعة من أبناء الأمَّة لِهَمِّ الأمَّة كاملاً إنَّما هو أمر لا يقدرون عليه؛ ولكن حين تُرمى الكرة في ملعب الشُّعوب، ويُدرك أفراد هذه الشُّعوب مهمَّتهم ومسؤوليَّتهم تجاه أمَّتهم؛ فإنَّهم تلقائيًّا يتعاطون بشكل أفضل ويبادرون لإنجاز مشروعهم، ويكون لهم تأثير على الحركة الرسميَّة.

إنَّ القَرن الخامس عشر هو قرن استثنائي بالنسبة للمواجهة بين الإسلام وأعدائِه؛ ذلك لما سبق من تغلُّب العَلمانيَّة وما تفرَّع منها زمنًا على الأمَّة الإسلاميَّة، وما ظهر نتيجة ذلك من دعاوى ضعْف الإسلام وعدم مواكبته للمستجدَّات العصريَّة، فضلاً عن أنَّ هذه السنين هي مزرعة لقوى جديدة ستظهر على السَّاحة العالميَّة، إن شاء الله تعالى، وبالتَّالي فيجب على الأمَّة أن تكون من هذه القوى؛ لأنَّ غير هذا سيُعْتَبر تاريخًا مأساويًّا جديدًا لأمَّة الإسلام والعالم، في ظلِّ العلمانيَّة.

بقلم: مصعب الخالد البوعليان

المصدر:  شبكة الالوكة

Powered by Froala Editor