إطلاق تجريبي
ومن المشهورِ عندَ أهلِ السّنّةِ أنّ مِن وظائفِ أهلِ العلمِ - علماءَ وطلابٍ - أنّ يبيّنوا الخطأَ، وينكِروه ويردّوه، أيّاً كان مصدرُه، وأيّاً كان قائِلُه. حتّى لو كانَ هذا الردّ سيثير المردودَ عليه ويغضِبه، فإنّ مراعاةَ حقّ الله أولى وأحرَى بالمؤمنين، فضلاً عن العلماءِ وطلبةِ العِلم. وقد كانَ هذا دأبُ السّلفِ الصّالح، وهذا منهجُهم، حتّى دخلَ على هذا الأصلِ شُبَهٌ، وتنكّر له بعض المنتسبينَ إلَيه، فتساهلُ الناس فيه، وأصبحَ من أشدّ ما يمكِنُ على النّفوسِ أن تنكرَ البدعةَ ؛ إذا جاءت من مشهورٍ بالعلمِ أو الدّعوةِ والعملِ للإسلام، بِحُجَجٍ واهيةٍ وشبَهٍ هي في ذاتِها بدعةٌ، من حيثُ الاحتجاجِ بها. صحيحٌ أنّ لذلكَ ضوابطَ وشروطاً تضمن لا يؤدّي هذا الإنكارُ إلى مفسدةٍ أعظمَ من مفسدةِ السّكوت على الخطأ، غير أنّ هذا استثناءٌ من الأصلِ، وللأسفِ فقد أصبحَ الاستثناءُ أصلاً، وصارَ الأصلُ شذوذاً يُنظر إليهِ نظرةَ الرّيبِ والشّك. وممّا شجّعَ أولئك المتساهِلين وبرّر لهم مواقفهم تلكَ أنّ هذا الأصلَ - للأسفِ الشّديدِ - استحالَ في أيديِ بعضِ النّاسِ مِعوَلاً هادِماً،فرّق الجموعَ وشتّت الجُهُودَ وشُغل به النّاسُ عن البناء . ذلك أنّ السّلفَ حينما أكّدوا على هذا الأصلِ، فإنّما هو بضوابِطَ شرعيّة كانت معروفةً لديهم، وليسَ الأمرُ لعبةً بيدِ كلّ سفيهٍ يتّخِذُها ذريعةً للطّعنِ في الأبرياءِ، والدّسّ على أهل الدّيانةِ والصّيانةِ ودعاةِ الحقّ، بل أهلُ البدَعِ الحقيقيّون للكلامِ فيهِم أصولٌ ينبغي أن تُراعَى، لماذا؟ لأنّ هذا الأصلَ ميزانٌ دقيقٌ، يوازنُ فيه العالمِ بين مفسدةِ انتشارِ البدعةِ، وبين مفسدةِ بثّ الفرقةِ بينَ المسلِمين، وهاتانِ مفسدتانِ عظيمتان تتعلّقان بهذا الأصلِ تعلّقاً كبيراً، ومن هنا وجَبَ أن لا يتكلّمَ فيهِ إلاّ من تمكّن من العلمِ، وأخذ منه بحظٍّ وافِرٍ، ومن الفقهِ بنصيبٍ محمود، وإلاّ وقعت الفَوضى، وهذا ما نشاهِدُه، وهذا ما نعيشُه بسبب عدمِ انتهاجِ منهجِ النّبوّة في ذلك، حتّى تفرّقنا وتشتّتنا، وحدثت البغضاءُ والشّحناءُ والتّنافُر، ودرَسَ منهاجُ النبوّةِ بسبب سلوكِ مناهجَ منبعُها الهوَى، وحافِزُها حبُّ الظّهور، وقِناعُها الدّيانةُ والغيرَةُ. وما أجملَ ما قالَ شيخُ الإسلامِ رحِمَهُ اللهِ: «فالهِجرةُ الشّرعيّة هي منَ الأعمالِ الّتي أمرَ اللهُ بها ورسولُه، فالطّاعة لابدّ أن تكون خالصةً لله، وأن تكونَ موافقةً لأمرِه، فتكونَ خالصةً للهِ، صواباً، فمن هجرَ لهوَى نفسِه، أو هجرَ هجراً غيرَ مأمورٍ به كانَ خارجاً عن هذا، وما أكثرَ ما تفعلُ النّفوسُ ما تهواه، ظانّةً أنّها تفعلُه طاعةً لله». والنّاظر يرى أنّه بين تساهلِ الجماعاتِ وبعضِ الدّعاةِ وأهلِ العلم، وبين شدّة الآخرين وبغيِهِم وعدوانِهم بغيرِ حقٍّ على من يقعُ في الخطأ، يُغيّب الحقُّ وتُغيّبُ السّنّة في هذا الأصلِ، القائمِ على ما قدّمناه من الموازنةِ بين المصلحةِ والمفسدة. وقد رأيتُ أن أساهِمَ في تذكيرِ نفسي وإخواني بأصلٍ عظيمٍ من أصول الشّريعة، ألا وهو حراسَتُها من التّحريفِ والتغيير، مع المحافظةِ على صيانةِ جانبِ العلمِ وأهلِ العلمِ والدعاةِ من انتهاكِ أعراضهم بدونِ وجهِ حق، فكانت هذه الرسالة التي سميتها: [أصول وقواعد نقد المخالف والموقف منه] ذكرتُ فِيها ما يسّرَ اللهُ من الضوابطِ والقواعدِ التي تحكُمُ هذا الأصل وتُحكِمُه، واللهَ أسألُ أن يجعلَها حجّةً لي لا عليّ، وأن يهبَني غُنمَها، ويكفيني غُرمَها، وهو أكرمُ مسؤول.
Powered by Froala Editor
Powered by Froala Editor
Powered by Froala Editor
قم بتسجيل الدخول حتى تستطيع التعليق