إطلاق تجريبي
لا توجد كتب صوتية الان
ظهر منهج النقد في المرويات على أيدي المحدثين ، والأئمّة منهم على وجه الخصوص كنتيجة طبيعية لكثرة المرويات والأحاديث والتداخل فيما بينها ، وكثرة طلاب الحديث ونقلته من أهله ومن غير أهله ، مما زاد من رقعة الخطأ في روايات الثقات ، كما زاد من التخليط والكذب في روايات الضعفاء والوضّاعين .
ومنذ عصر متقدم تميز المحدثون بدقة بحثهم في المرويات ، بهدف معرفة ما يصح نسبته للنبي e ، إمّا على سبيل القطع أو غلبة الظن ، وكذلك معرفة ما لا تصح نسبته له e ، إمّا على سبيل القطع ، أو غلبة الظن .
وكان هذا الأمر محصوراً في أهله من أئمة الحديث الكبار ، كما كان يشاركهم غيرهم من الأئمّة وإن كانوا أقلّ تخصصاً في الحديث ونقد الحديث والمرويات ، ولم يكن لهم رأي مختلف عن أئمة الحديث أو معايير تفارق منهج المحدثين ، وإنما يشاركونهم على أصولهم وقواعدهم .
ثم برز اتجاه بدأ يتميز بأصول وقواعد تغاير منهج المحدثين ، ويمثل هذا الاتجاه الفقهاء والأصوليون الذين غلب على مشاركاتهم في نقد الروايات النظرة التأصيلية والعقلية المجردة ، مما ميز منهجهم بقواعد تغاير منهج المحدثين بدرجة يمكن معها اعتباره منهجاً مستقلاً في نقد الروايات أو التصحيح والتضعيف ، وإن كانوا لا يعدمون من يوافقهم من المحدثين في بعض هذه المواقف لكنه على أيّ حال ليس منهج العامة منهم .
ومذ ذلك الحين والعلماء يميزون في مواضع كثيرة من مواضع الحكم على المرويات منهجين في تصحيح وتضعيف المرويات : منهج المحدثين ، ومنهج الفقهاء ، وتغير المنهج يؤثر في النتيجة التي يخرج بها مَن يختار أحدهما .
وظلّ الأمر على هذا ، فما زال أهل العلم يذكرون حينَ الحكم على حديثٍ مختلف فيه بين وصل ورفع ، أو اضطراب أو زيادة في المتن : أنّه على مذهب الفقهاء كذا ، وعلى منهج المحدثين كذا وكذا ، كما قال ابن حجر في حديث تغسيل الميت ـ بعد أن ذكر إعلال أبي حاتم وأبي زرعة لبعض شواهده ـ : « وعن حذيفة ، ذكره ابن أبي حاتم والدارقطني في العلل وقالا : إنه لا يثبت ، قلت : ونفيهما الثبوت على طريقة المحدثين ، وإلاّ فهو على طريقة الفقهاء قويّ ؛ لأن رواته ثقات »([1]).
ومع أنّ أولئك العلماء والأئمّة يعرفون أنّ بعض أهل الحديث وافق الفقهاء في رأيٍ من آرائهم ، فإنّ أحداً منهم لم يقُل في موضع واحد : إن منهج المحدثين المتأخرين يفارق منهج المتقدمين منهم في معايير النقد والحكم على المرويات .
حتى جاء بعض المنتسبين للعلم في عصرنا هذا بقول لم يُسبق إليه ، وهو : أنّ منهج المتأخرين والمعاصرين في النقد يختلف جوهرياً عن منهج المتقدمين ، ومن أشهر هؤلاء ـ بل هو رأسٌ في هذه الدعوى ـ : الدكتور حمزة بن عبدالله المليباري ، الذي ألّف عدداً من الكتب والأبحاث لا تكاد تجاوز هذه المسألة ، وهي تعميق وتجذير فكرة الاختلاف المنهجي بين المتقدمين والمتأخرين في التصحيح والتضعيف .
الدكتور حمزة المليباري
وهذا الذي ذهب إليه الدكتور خطأ ؛ ليس من حيث وجودِ منهَجٍ مخالفٍ لمنهج المحدثين في نقد المرويات ، وإنّما في نسبة هذا المنهج إلى متأخّري أهل الحديث ومعاصريهم .
وليس هذا راجعاً إلى اصطلاح أو تسمية كما يهون البعض منه ، أبداً ، بل هو مضطرب متناقض ، هو ومن يوافقه ، فمرة يجعل المقصود بمصطلح المتأخرين : الفقهاء ، ومرة يقول : إن ّالمقصود متأخروا المحدثين ومعاصروهم ممن وافق الفقهاء ، وسوف نرى حقيقة اضطرابه في هذه الدعوى في أثناء الكتاب ـ إن شاء الله ـ .
وقد جعل محلّ نقده وموضوع بحثه ما كتبه أئمة الحديث المتأخرين من أمثال ابن القيم وأحمد شاكر والألباني ، وهذا يزيد الأمر تعقيداً .
وعلى العموم فالدكتور تتركّز دعواه على أن المتأخرين من المحدثين خلطوا منهج النّقّاد بمنهج الفقهاء بين مقلٍّ ومستكثر ، مما نتج عنه اختفاء منهج النقاد المتقدمين ، وظهور منهج الفقهاء أو متأخري المحدثين في التصحيح والتضعيف ، والواجب في نظر الدكتور أن المتقدم إذا تكلم في حديث بتعليل أو بتصحيح ؛ فالواجب تقليده وعدم مخالفته ؛ لا عتبارات يأتي ذكرها .
وقد وقع الدكتور في خضم كتاباته في مجازفات ، نعم مجازفات ؛ لأنّها دعاوى عريضة وخطيرة ، مع أنه لا دليل له عليها ، بل هي أوهامٌ وسرابات بقيعة ، أقامها الدكتور مقام الحقائق العلميّة ، الأمر الّذي أوقعه في تلك المجازفات ، وسوف أعرضها عرضاً كما بدت من خلال كتاباته سائلاً ربي السداد والإعانة .
([1]) التلخيص الحبير ، (1/37) .
Powered by Froala Editor
Powered by Froala Editor
Powered by Froala Editor
قم بتسجيل الدخول حتى تستطيع التعليق